mercredi 4 mars 2015

المعلم الياباني..شخصية آسرة !



المعلم الياباني..شخصية آسرة !
                                                                                           حميد بن خيبش

من المعجزة إلى الظاهرة ثم التجربة, تنوعت تسميات الإنجاز الياباني الكبير الذي لم يملك العالم سوى الذهول إزاءه, والإقرار بأن التحول العظيم الذي حققه اليابانيون بعد صدمة الحرب كان قياسيا وغير متوقع! وخلال العقود الماضية تواترت الدراسات والأبحاث والزيارات الميدانية في محاولة لكشف التعويذة التي حررت اليابان من مخلفات الإقطاع لتضعها في مصاف الدول المدنية الحديثة.
تعزو الدراسات نهضة اليابان إلى الأساس المعرفي الذي ارتكزت عليه برامج الإصلاح, فمنذ عصر توكوغاوا (1868-1603 ) والذي اتخذت خلاله اليابان قرار العزلة الطوعية, عرفت البلاد نقلة غير مسبوقة تمثلت في التثوير النوعي والكمي للمناهج التعليمية, وتمكين أبناء الصناع والفلاحين من نظام تعليمي مواز لتعليم النخبة الموجه لفئة الساموراي الحاكمة .بيد أن الخطوة الأهم التي يدين بها اليابانيون لأسرة توكوغاوا هي علمنة التعليم والأخذ بمبدأ الاستحقاق عبر منح الاعتبار في التعيينات الخاصة بالجهاز الإدراي للمهارة الفردية والتميز في الدراسة عوض الاكتفاء بامتيازات الأصل والوضع الاجتماعي.أما طبقة المعلمين فتشكلت خلال هذا العصر من فئات متباينة ثقافيا تضم الرهبان وبعض المتحمسين لنشر مباديء كونفوشيوس إضافة إلى العامة ممن مارسوا التعليم كعمل إضافي لتغطية حاجاتهم الضروية. ولم يكن الدخل في الحقيقة مغريا , فهو لا يزيد عن هدايا دورية يتبرع بها الآباء , أو مقدار سنوي من الأرز يؤدى للمعلم في القرى على نحو شبيه ب "الشرط " في البادية المغربية (1)
أدى الإقبال الهائل على التعليم إلى ارتفاع النسبة العامة للمُلمين بالقراءة والكتابة على نحو هيأ لإصلاحات "ميجي" أرضية صلبة,وبنية تحتية تضاهي مثيلتها التي حققت التفوق في الغرب.ورغم أن البلد في الفترة الأخيرة من حكم توكوغاوا واجه أزمات اجتماعية واضطرابات أنهت حكم هذه الأسرة ومعها النموذج الإقطاعي,إلا أن المؤسسات التي تمخضت عن عملية تحديث شاقة ,لم تكن أقل كفاءة وجاهزية آنذاك عن نظيرتها في الدول الغربية الرائدة. أمر يعزوه سفير أمريكي سابق وأحد أهم دارسي التاريخ الياباني(2) إلى الخصائص الوطنية لشعب اليابان مثل تجانسهم العظيم,وهويتهم الذاتية القومية ووعيهم الشديد بإمكانات التعلم من الخارج,وهي الخصائص التي أنضجتها العزلة الطوعية على مدى قرنين !
احتل التعليم الأولوية على رأس قائمة الإصلاحات التي باشرها رواد حركة " ميجي", حيث نص المبدأ الخامس من القسم الذي تمت تلاوته بين يدي الامبراطورعلى السعي الجاد نحو تحصيل المعرفة بشتى الوسائل " سيجري السعي إلى المعرفة في كل أرجاء العالم من أجل وضع أسس الامبراطورية ".بيد أن ما يُحسب لهذه الحركة هو الحد من غلبة التعليم الارستقراطي, وإتاحة فرص متكافئة لكل الطبقات الاجتماعية لبلوغ قمة العملية التعليمية,بالإضافة إلى ملاءمة النظام التعليمي مع الاحتياجات الوطنية كما تحددها القيادات اليابانية.
بعد الحرب العالمية الثانية استعادت اليابان رشدها التربوي من خلال تعديل هيكلها التعليمي ليتوافق مع النظام الدراسي الأمريكي بداية, ثم ليتفوق عليه لاحقا بفضل حماس الياباني الشديد للمعرفة وولائه للمعايير والقيم الدينية والأخلاقية التي تمجد التضحية والروح الجماعية.
***
" الحق أن اليابان كلها ليست إلا اختراعا خالصا.لايوجد بلد كهذا,لا يوجد أناس كهؤلاء".هذا ما كتبه أوسكار وايلد عام 1889 معبرا عما يحفل به المجتمع الياباني من سمات وخصائص حذت بكثير من الغربيين إلى مراجعة نظرتهم الاستعلائية لدول الشرق.ولعل صدى هذه المقولة يتردد بقوة حين يُقلب المرء صفحات التاريخ الحديث ملتمسا نظيرا للقفزة النوعية التي حولت بفضلها اليابان هزيمتها العسكرية إلى انتصار اقتصادي وتفوق تكنولوجي!
شكل العنصر البشري قطب الرحى في الإنجاز الياباني الكبير, لذا حظيت رعاية الطفل وتنشئته بالأولوية وتعبئة الجهود, وهو ما اعتبرته ماري هوايت في كتابها (التحدي التعليمي في اليابان) مدعاة للحسد " إن رعاية الأطفال في اليابان لا تعتبر مجرد شأن عائلي, فالحق أن الأمة كلها معبأة من أجل الأطفال وتعليمهم.وهذا الهاجس الذي يتملك الأمة من أجل الأطفال يمكن أن يكون مصدر فخر للأهل والمعلمين في الغرب,هذا الهاجس الذي يمكن أن يكون مسؤولاعن أطفال تلتقي مسارات حيواتهم ومستقبلهم مع معاييرنا.وباختصار,الطريقة التي ينتهجها اليابانيون في رعاية أطفالهم و تنمية ملكاتهم هي من الأمور التي يجب أن نحسدهم عليها ".وخلف هذه الرعاية المتفردة تقف شخصيتان آسرتان في المجتمع الياباني,فعليهما يقف العبء الأكبر في التنشئة وترسيخ القيم والاتجاهات المرغوبة.
تمثل الأم الشخصية الأولى, فهي التي يقع على عاتقها تعليم الأولاد ومتابعة تحصيلهم الدراسي,بدءا من اختيار المؤسسة التي سيلتحقون بها ووصولا إلى توفير كل الظروف المناسبة لاجتيازما يسميه اليابانيون " شيكن جيكوكو" أي الاختبارات الجهنمية.إن تعليم الأبناء هو رسالتها الوحيدة في الحياة, مما جعل بعض الدارسين يطلقون على اليابان لقب "كيواكو ماما" أو مجتمع الأم المدرسة ! أما الشخصية الثانية فهي المعلم, إذ نجحت اليابان في تكوين جهاز تعليمي محترف وملتزم يحظى بالتقدير والمكانة الاجتماعية المرموقة.إن احترام المعلم كموقف وسلوك يضرب بجذوره عميقا في الثقافة اليابانية ,منذ أن استوعبت هذه الأخيرة تعاليم كونفوشيوس قبل عصور التحديث.حينها كان الشعب يضع معلميه من الرهبان ورجال العلم في مصاف الآلهة الروحيين, ويحرص على إثبات ولائه للقيم الروحية التي تربط العامة بالحكماء.وهو الامتيازالذي جرى الحفاظ عليه خلال التحول الذي عرفه البلد عقب الصدمة النفسية للحرب العالمية الثانية.
ماالذي يميز المعلم الياباني عن غيره حتى يستحق أن يكون شخصية آسرة ؟
يحتل المعلمون ترتيبا أفضل من المهندسين في سلم المهن, كما يحظى أساتذة الجامعات بالرتبة الثالثة بعد القضاة ورؤساء الشركات.ولا يفوز بشرف المهنة وامتيازتها سوى ياباني واحد من بين خمسة يتقدمون للاختبار. وضع كهذا من الطبيعي أن يجعل من مهنة التعليم وظيفة مغرية يطمح إليها خريجو الجامعات, ويضفي على اختبارات القبول الكتابية والشفوية طابع الصرامة والجدية.أما بعد القبول فإن الطالب يحرص على إظهار صور الالتزام والتفاني والولاء لروح الجماعة والحفاظ على التفوق النوعي للمنظومة التربوية.
تؤمن اليابان بأن المدرس الكفؤ والمخلص في عمله هو أساس المدرسة الناجحة, لذا يمتد دور المعلمين خارج الفصل الدراسي عبر التتبع الدائم لكل شؤون تلاميذهم, والقيام بزيارات دورية إلى مقرات سكناهم للتواصل مع الأسرة والاطمئنان على المناخ العام حيث ينجزون واجباتهم المنزلية. وبالإضافة إلى التدريب المستمر أثناء الخدمة وإعداد دراسات وبحوث للرفع من المستوى العلمي,فإنهم يؤدون مهام أخرى يندرج بعضها عادة ضمن اختصاص الإداريين, في حين يرتبط البعض الآخر بأعمال الصيانة.هذا لا يعني أن الأمور تسير دائما على النحو المطلوب,فالنظام التعليمي الياباني يعاني,كغيره من النظم,من  مشاكل وصراعات أفضت إلى تأسيس اتحاد المعلمين المعروف باسم " نيكويوسا",إلا أن الهالة التقليدية للتعليم لم تتعرض للاهتزاز جراء تسييس النظام المدرسي" كان الشيوعيون وغيرهم من القوى اليسارية الأخرى هم الذين يسيطرون على هذا الاتحاد منذ سنوات الحرب, الأمر الذي دفع الاتحاد إلى خوض معركة علنية ضد وزارة التعليم حول مسألة الإشراف على الوزارة وعدد من المسائل الأخرى.وقد ترتب على هذا الموقف تسييس النظام المدرسي بشكل خطير وإن لم يؤثر على النوعية التعليمية.ورغم الجدل الشديد حول طبيعة الاتحاد, ظلت الهالة التقليدية التي تحيط بالتعليم ودورالمعلم مستقرة وسائدة في كل أنحاء اليابان (!) ويشعر المعلمون دائما أنهم مشتركون في هذا الميراث بفخر وولاء" (3).
ويتحمل المدرس الياباني كذلك قسطا من المسؤولية المرتبطة بالتوجيه,وفق خطة تربوية سنوية تتضمن تفاصيل الأنشطة المصممة لتوجيه الطلاب وإدارة الصف.والغرض من هذه المهمة هو تنمية عادات التنظيم والترتيب والتعاون والتأديب الذاتي,وحفز اتجاهات من شأنها خلق بيئة منتجة ومنضبطة للروح الجماعية التي تعد أحد مصادر القوة في الصناعة اليابانية.و حرص المدرس على النهوض بواجبه في التوجيه إلى جانب مسؤوليته عن التدريس وإدارة الصف يعكس في الحقيقة تفرده إذا قورن بالدور المتخصص جدا للمدرس في النظام التعليمي الغربي ومن نحا نحوه !
ولايُعنى المدرس الياباني بتحقيق تلاميذه لسقف عال من الإنجاز الدراسي في المعرفة الأكاديمية وحدها,بل يحرص على بلوغ هذا الهدف على مستوى المهارات الفنية والأخلاقية والذكاءات الاجتماعية و النمو الجسمي.ذلك أن الممارسة العملية في النظام التعليمي الياباني تركز على مفهوم شمولي للطفل يستمد تصوراته من الأسس الثقافية للتحصيل الدراسي في اليابان ,والتي تعزو عملية التحصيل للجهد والضبط الذاتي وليس للقدرة الموروثة أوتباين نسب الذكاء.
لاشك أن هناك انتقادات عديدة توجه لنظام التعليم في اليابان, وعلى رأسها القيود التي يفرضها على حرية الفرد,والضغوط الشديدة التي يمارسها النظام المعقد و"الجهنمي" للاختبارات في تحديد نمط الحياة العملية لكل فرد,إلا أن الإنصاف والموضوعية يُحتمان الإقرار بمحورية الأساس المعرفي في التفوق الياباني الراهن. هذا الأساس الذي يعتمد على شخصية آسرة للمعلم ,ودرجة عالية من الدافعية لدى الطالب, وخلف الإثنين موروث حضاري ضخم من العادات و التقاليد التي تعزو قوة الفرد لما يتمتع به من معرفة وبصيرة أخلاقية !    

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د.محمد أعفيف. أصول التحديث في اليابان. مركز دراسات الوحدة العربية. لبنان 2010 . ص 418
(2) إدوين رايشاور : اليابانيون. المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب . الكويت 1989
(3) إدوين رايشاور . مرجع سابق .ص 232