vendredi 3 janvier 2014

نحو مجتمع معلم

نحو مجتمع معلم
                                                                         حميد بن خيبش



إن ما يعتري المشهد التعليمي اليوم من أعراض النكوص و التذمر ولعبة شد الحبل المزمنة بين الفاعلين التربويين و الوزارة الوصية , أرخى بظلاله على العلاقة بين المؤسسة التعليمية و محيطها الاجتماعي . وبدأت الشكوك تساور الآباء و أولياء الأمور حول صدق المدرسة العمومية في التزامها بما يُعلن عنه دوما في الخطاب الرسمي , من حيث كونها رافعة للتنمية , وعتبة ضرورية  لإيجاد موطيء قدم في سوق الشغل . بل يمكن القول أن هذه الشكوك اتخذت طابعا عمليا ممثلا في تنامي ظاهرة الهدر المدرسي , و الإقبال المتزايد على التعليم الخاص .
بيد أن القراءة الرصينة للتوتر الحاصل بين المدرسة العمومية و المجتمع , تُحمل هذا الأخير نصيبا من المسؤولية , باعتبار أنها – أي المدرسة – جزء من بنيته الأساسية . فحتى تضطلع المؤسسة التعليمية بأدوارها الرائدة لا بد أن تنفتح على مجتمع "معلم " . وهو الذي اشترط الدكتور حسن شحاتة في إحدى رؤاه المميزة بأن تكون كل مؤسساته و تفاعلاته قوى معلمة : الأسرة و الإعلام وموقع العمل و التعامل مع الغير .. إلخ (1).
هل يمكننا الجزم بوجود مؤازرة فاعلة وجادة من لدن هذه المؤسسات للمدرسة العمومية ؟
إن الرد بالإيجاب سينطوي حتما على مجانبة لحقيقة الوضع الهش الذي يسم العلاقة بين الطرفين . لذا فإن الكشف عن مواطن الداء خُطوة ممهدة لتحقيق نوع من المصالحة و التفاعل المثمر بين المؤسسات سالفة الذكر.
تأتي الأسرة في مقدمة القوى "المعلمة" التي يُفترض فيها نسج علاقة متينة مع المدرسة , إلا أن هذه العلاقة لا ينبغي أن تنحصر في هدف أوحد , كما هو حاصل اليوم , قوامه إنجاح المسار الدراسي للطفل بأي وجه كان , حتى لو اقتضى الأمر ردم البناء القيمي !
بل لا بد من التعامل معها باعتبارها كذلك فضاء مكملا للتنشئة الأسرية , ولترسيخ القيم و السلوكيات الإيجابية . وقد تنبه الزعيم المغربي علال الفاسي مبكرا لخطورة هذا الأمر, ودعا في كتابه المميز " النقد الذاتي" إلى مراعاة التوازن بين كسب الرزق و استكمال تشرب القيم المعنوية " - إن- كسب الرزق مثلا لايُمكن أن يُهمل في الاعتبار التربوي , لأن تعليم الناس حرفة أو مهنة يستطيعون بها مغالبة الحياة و سد حاجتها أمر ضروري التقدير , إلا أنه لا يُعقل أن يكون هدفا كاملا للتربية ;لأنا لو جعلنا المثل الأعلى للمدرسة و للبيت هو في تكوين أناس قادرين على الكسب لقضينا على كل القيم المعنوية في النفوس و في المجتمع ,و لأصبحت غاية الجميع هي جمع بعض المال بوسيلة من الوسائل ولو كانت ممنوعة أو دنيئة " (2) وإن مما يحزن حقا أن نعاين اليوم ما حذر منه الأستاذ علال الفاسي , من حيث السعي المحموم الذي تبذله عدد من  الأسر المغربية لتمكين أبنائها من اجتياز الامتحانات و الحصول على الشهادات التعليمية , ولو تطلب الأمر الرضوخ لقيم سلبية مدمرة كالغش و الرشوة و التزوير واستغلال النفوذ .

وفيما يتعلق بالإعلام (3), فإن من نافل القول الحديث عن عظم شأنه و خطورة دوره في تطوير الفكر ورفع منسوب الوعي العام شريطة استكماله لمقوماته و أصوله , و انخراطه الجاد في مهام البناء وتقوية مناعة الأمة . إلا أن الواقع المغربي يكشف عن نموذجين لا يمكن الرهان على أحدهما , أو حتى كليهما , لتفعيل أدوار المجتمع المعلم كما نصبو إليه .
يتمثل النموذج الأول في الإعلام الرسمي الذي لا يكف عن الكيل بمكيالين في تعامله مع المدرسة العمومية . فمن جهة يحرص على تلميع سياسته التعليمية و ترويج خطاب مغرق في التفاؤل عبر الاتكاء على المعطى الكمي و لغة الإحصاءات و الأرقام . ومن جهة أخرى يُحملها  عبء التصدي للمشاكل و المآزق و الأزمات الاجتماعية مما يوحي للمتتبع بأنها المتهم الرئيسي في ملف شيوع الانحرافات و الظواهر السلبية !
أما النموذج الثاني فهو الإعلام التغريبي الخادم لأجندة مناوئة لهوية الأمة و معتقدها و قيمها الراسخة . فلا هم له سوى تسطيح الفكر , و تفتيت منظومة القيم , و الزج بالمجتمع في هوامش إلهاء بغيضة تشل القدرات و تؤجج الصراعات . و إعلام من هذه الطينة لا يُمكن أن يُشكل قوة معلمة, بل هو معول هدم و إطاحة بما تجهد المدرسة في بنائه وتثبيته !
لذا فإن الحاجة ملحة لنموذج إعلامي بديل , يضع المرفق التعليمي في صلب الانشغال اليومي , ويُؤسس لمنظور جديد في التعامل مع المدرسة كمدخل حيوي للبناء الحضاري .

ولكي تصبح قطاعات العمل و الإنتاج قوى "معلمة" ينبغي أن تحد من تعاملها مع المدرسة العمومية كتجمع للمستهلكين الصغار , وأن تسهم بشكل فاعل في دعم المرفق التعليمي مما يحسن من كفاءة المخرجات التعليمية التي ستتولى آجلا إدارة عجلة الاقتصاد.
و إنا لنغبط التجربة اليابانية التي تُجسد فيها المصانع و الشركات قوى معلمة بالغة الأثر . فمن المعلوم أن اليابان في طليعة الدول التي استثمرت في الرأسمال البشري من منطلق أن أعظم اكتشاف هو الإنسان ذاته . ووجهت كل مكونات المجتمع , بما فيها الاقتصاد , لغرس عناصر الطموح و التحدي و تفجير القدرات الخلاقة للإنسان الياباني . ولعل من ثمار هذا الاهتمام البالغ ما صرح به الاقتصادي الياباني " دوكو" ,عندما سُئل عن عبقرية الإنسان الياباني و علاقته بالصناعة, قائلا " إن المصانع ليست إلا أسرة , إنها حياة العائلة الواحدة , بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم , فالمصنع عائلة مرتبطة تماما , وعمال المصنع قد وُلدوا ليموتوا في داخله . و إذا ترك الواحد منهم هذا المصنع , فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس , وإذا حاول أحد عمال هذه المصانع أن يذهب إلى مصنع منافس , فإن المصنع لن يقبله لأن العائلات أسرار , و العائلات اليابانية تتنافس ولكنها لا تتصارع , إنما تتفوق على المصانع الأوربية و الأمريكية  , من أجل عظم و رفاهية الشعب الياباني كله " (4).

و حتى تصبح هيئات المجتمع المدني قوى معلمة يجدر بها أن تنخرط إلى جانب المؤسسة التعليمية في تعزيز التطبيق الفعال لحقوق الإنسان , و اتخاذها شريكا أساسيا في التطوير المنسق للبرامج و القدرات , لا مجرد فضاء للدعاية الفجة .
وقس على ذلك ما يهم قطاع الرياضة و الفنون وغيرها .

إن الاكتفاء بما تبذله المؤسسة التعليمية وحدها لمواجهة أشكال الفوضى الاجتماعية و الخلل الوظيفي داخل الأسرة  لن يعيد للبناء الاجتماعي تماسكه , و لن يُحقق الاستقرار الضروري لإنجاح المشاريع و المبادرات الرامية إلى  تطوير فرص العيش في عالم متقلب . لذا فإن اندماج المجتمع بمختلف مكوناته كشريك في العملية التربوية لهو أمر لا مناص منه لمواجهة عوائق الإصلاح و النهوض الحضاري .  
 
  



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          د.حسن شحاتة : رؤى تربوية و تعليمية .دار العالم العربي .القاهرة 2008. ص 39
(2)          علال الفاسي : النقد الذاتي . المطبعة العالمية . القاهرة 1952. ص 326
(3)          نقصد الإعلام السمعي و البصري فقط , بالنظر إلى سطوته و حضوره الطاغي.  
(4)          سلمان بونعمان : التجربة اليابانية :دراسة في أسس النموذج النهضوي.مركز نماء للبحوث و الدراسات .بيروت2012 .  ص 125


0 التعليقات:

Enregistrer un commentaire