لعله من الممكن أن نربط بين أسواق العرب في الجاهلية: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وبين دكاكين أو محال بيع الكتب في الإسلام.
في تلك الأسواق المشهورة كان العرب يجتمعون للقيام ببعض الصفقات التجارية، ولكنهم كانوا ينتهزون فرصة هذا الاجتماع ليقوموا بنشاط رائع في الناحية الأدبية، فينشدون الأشعار، ويعقدون المناظرات، ويلقون الخطب الرنانة(1).
لقد حاكت دكاكين الوراقين الأسواق في بيع الكتب، هذه الدكاكين التي فتحت في الأصل لأعمال تجارية بحتة، ثم إذ هي تصير صرحًا للثقافة والحوار العلمي، عندما أمها المثقفون والأدباء، واتخذوا منها مكانًا لاجتماعهم وأبحاثهم.
ولم تكن دكاكين بيع الكتب محاكاة تامة لأسواق العرب في الجاهلية، بل كانت هناك نقاط خلاف بين هذه وتلك، ومن أبرز هذه النقاط أن الاجتماعات الثقافية كانت شبه يومية في حوانيت بيع الكتب، ولكنها في أسواق العرب كانت ترتبط بعمران هذه الأسواق التي ما كانت تعمر إلا في مواسم خاصة.
ظهرت دكاكين بيع الكتب منذ مطلع الدولة العباسية(2) (132 هـ ـ 656هـ)، ثم انتشرت بسرعة انتشارًا ملحوظًا في العواصم والبلدان المختلفة في العالم الإسلامي، وحفلت كل مدينة بل كل محلة بعدد وافر منها.
يذكر لنا اليعقوبي في جملة كلامه عن أرباض بغداد قائلاً: «... ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين... وبه أكثر من مائة حانوت للوراقين»(3).
وكان في مصر على أيام الطولونيين (254 هـ ـ 292 هـ) والإخشيديين (323 هـ 358هـ) سوق عظيمة للوراقين، تعرض فيها الكتب للبيع، وأحيانًا تدور في دكاكينها المناظرات والمحاورات العلمية و الفكرية(4).
وقد تعرض المقريزي في مواضع كثيرة من كتابه (الخطط)، للحديث عن هذه المحال التي كان يجتمع فيها أهل العلم والأدب والفكر، ومن يرغب في شراء الكتب أو بيعها(5).
ولم يكن باعة الكتب مجرد تجار ينشدون الربح أو المكسب المادي، وإنما كانوا ـ في أغلب الأحايين ـ أدباء ذوي ثقافة واسعة عالية، يسعون للذة العقلية من وراء هذه المعرفة التي كانت تتيح لهم القراءة والاطلاع، وتجذب لمحالهم أهل العلم والأدب، وعلى هذا فقد حفلت أسماء الوراقين بشخصيات لامعة كابن النديم صاحب كتاب الفهرست المشهور(6).
وكذلك علي بن عيسى المعروف بابن كوجك، وقد ذكر عنه ياقوت الحموي أنه كان وراقًا، بالإضافة إلى كونه أديبًا فاضلاً، وقد ألف عدة كتب صالحة(7).
والمعروف لنا أن ياقوت الحموي مؤلف (معجم البلدان)، و(معجم الأدباء)، عمل وراقًا، بالإضافة إلى كونه أديبًا وشاعرًا وباحثًا جادًا(8).
ونحب أن نشير هنا إلى أنه رغم تغير الظروف والأحوال، فإنه مازالت في كثير من البلاد العربية والإسلامية علماء أفاضل يشتغلون بهذه المهنة، وقد تحدث السندوبي وهو يقدم لكتاب المقابسات (لأبي حيان التوحيدي) عن واحد من هؤلاء، فقال: عرفت رجلاً يبيع الكتب في حي خان الخليلي (بالقاهرة القديمة) يسمى الشيخ / عبدالملك الفشني، وكان على علم ومعرفة وسعة اطلاع، وكان يدلني بصدق وإخلاص على ما يلزمني من الكتب القيمة والأسفار النافعة، وقد كان يذاكرني في المعارف العلمية والأدبية، وينبه ذهني إلى حقائق الأشياء، ودقائق الأمور، ويشير علي بما يجب أن أقرأ من الكتب، ويدلني على الكيفية التي توصلني إلى الانتفاع بها انتفاعًا ناجحًا مثمرًا(9).
وقد قابلنا في شبابنا أو في أول رحلتنا مع العلم والمعرفة رجالا أفاضل من باعة الكتب على أرصفة حي السيدة زينب وحي الحسين وحي الأزبكية وبجوار الجامع الأزهر الشريف في القاهرة القديمة، باعة كتب أفاضل وجهونا إلى أمهات الكتب كي نطلع عليها وندرسها، ومنها عرفنا الكثير، فجزاهم الله خيرًا عن حسن عملهم.
نقول: إن مهنة الوراقة في عهد الدولة العباسية لم تقف عند حد الصفقات التجارية وبيع الكتب، وإنما كانت تتعدى ذلك إلى مهام ثقافية بالغة الأهمية في ذلك الوقت إذ كان الوراقون هم الذين ينسخون الكتب المهمة ويعرضونها للراغبين في اقتنائها، ويتقاضون على ذلك أجرًا متواضعًا متوسطه دينار عن كل كتاب.
وكان الجاحظ (شيخ العربية الأكبر)، وكما يحدثنا أبو هفان الراوية، يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للقراءة والدراسة، وقد قيل أنه توفي في إحدى هذه الدكاكين عندما سقط عليه أحد أرفف الكتب وهو في شيخوخته(10).
والذي يعنينا هنا التأكيد على أن حوانيت الوراقين كانت منتدى ومجتمع وملتقى للطلاب وللعلماء ولكل محب للعلم والأدب والمعرفة، يتذاكرون فيها ويتناقشون ويتحاورون فيفيدون ويستفيدون، وقد أشرنا إلى ذلك في السطور السابقة، ولكننا سوف نحاول أن نجلي الأمر أكثر فنذكر بعض الأمثلة القليلة في هذا السياق: ـ
ـ كان ياقوت الحموي يتاجر في الكتب، ويزور أسواق الوراقين من أجل أن يعرض تجارته، ويقال أنه كان متعصبًا على الإمام / علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وكان قد اطلع على بعض كتب الخوارج، فاشتبك في ذهنه من ذلك طرف قوي، فتوجه إلى دمشق السورية في سنة 613 هـ، و قعد في بعض أسواقها، وحاور بعض من يتعصب للإمام / علي..(11)، وبالطبع أي حوار بين أهل العلم والفكر يجب أن يكون على قدر كبير من سعة الأفق والتسامح واحترام الآخر مهما اختلفنا معه في أي رأي أو فكر، فالتعصب آفة تقتل الحوار البناء، وتدمر النقاش الواعي الفاعل.
ـ كان من عادة العالمين الشهيرين / أبي الفرج الأصفهاني، وأبي نصر الزجاج أن يلتقيا كثيرًا في سوق الوراقين، وفي إحدى جلساتهما كان أبو الحسن علي بن يوسف الشاعر والأديب جالسًا عند أبي الفتح بن الحراز الوراق، وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فكانت قذى عينيه حين تجلت
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره، حدث أبا نصر الزجاج قال: قال لي أبو الفرج الأصفهاني: قم إليه وقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذلك، فأين موضع الصنعة فيه ؟ فقمت فقلت له ذلك فقال : قوله « وكانت قذى عينيه «، فعدت إلى الأصفهاني وعرفته ذلك فقال: عد إليه فقل له أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها»(12)، والحوار هنا أمر لا ضرر ولا ضرار فيه طالما كان قائمًا على احترام جميع الأطراف.
ـ ووصف العلامة / ابن الجوزي (597 هـ) سوق الوراقين ببغداد في زمنه، بقوله: إنها سوق كبيرة، وهي مجالس العلماء والشعراء(13).
ـ أما سوق باعة الكتب أو الكتبيين بمصر فنقتبس الحديث عنه من كلام المقريزي في كتابه (الخطط)، حيث يحدد مكان هذا السوق فيما بين الصاغة (الحي الذي يصنع ويباع فيه الذهب في القاهرة القديمة) والمدرسة الصالحية، ويبدو أن المقريزي وصف هذا السوق سنة 700 هـ تقريبًا، وكان سوق الكتب قبل ذلك تجاه الجانب الشرقي من جامع عمرو بن العاص (رضي الله عنه) جنوب القاهرة أو مصر القديمة كما يقال عنها الآن، وما برح هذا السوق أن أصبح مجمعًا لأهل العلم والمعرفة يترددون عليه، وينقل المقريزي ما أنشده أحد الشعراء عن هذا السوق، حيث يقول:
مجالسة السوق مذمومة
ومنها مجالس قد تحتسب
فلا تقربن غير سوق الجياد
وسوق السلاح وسوق الكتب
فهاتيك آلة أهل الوغى
وهاتيك آلة أهل الأدب(14)
نقول: لقد كان لحوانيت الوراقين في الحضارة العربية الإسلامية أثر عقلي ملحوظ، كثيرًا ما تعدى الوراقين إلى أسرهم، ومن أمثلة ذلك: زينب وحمدة ابنتا زيد الوراق، الذي كان يعيش في وادي الحمى من غرناطة الأندلسية، فقد برعتا في الآداب والعلوم، وكانتا على قدم المساواة مع أساتذة العصر، ولعل ذلك دليل على مشاركة المرأة في الحضارة العربية الإسلامية في شتى مجالات العلم والمعرفة، بل ونبوغها وتفوقها في هذه المجالات(15).
هذا، ولم يقف النشاط العلمي بالدكاكين على حوانيت الوراقين بل انتقل منها إلى غيرها من مجال البيع والشراء، فإلى الحانوت المتواضع الذي كان الشاعر العباسي/ أبو العتاهية يبيع فيه الجرار والفخار كان يتوافد الشباب والمتأدبون فينشدهم أبو العتاهية أشعاره، ثم يأخذ هؤلاء ما تكسر من الخزف فيكتبون عليها أشعاره(16).
وكان أبو بكر الصبغي المتوفى سنة 344 هـ، يصنع الصبغ بنفسه ويبيعه في حانوته، وكان هو من أعيان فقهاء الشافعية، كثير السماع والحديث، وكان حانوته مجمع الحفاظ والمحدثين، وكان عبد الله بن يعقوب يجلس على باب هذا الحانوت يقرأ للناس(17).
ويروي أبو الحاج عن بعض شيوخه: أن رجلاً رحل في طلب العلم إلى بغداد، فقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، ثم أراد الانصراف إلى وطنه، فاكترى دابة يركبها ليخرج من البلدة، ولكنه وقف ليشتري صاحب الدابة بعض حاجاته، فسمع الطالب نقاشًا علميًا يدور بين اثنين من أصحاب الحوانيت المتجاورة فطلب الطالب من صاحب الدابة إعادته إلى بغداد قائلاً: إن بلدا باعته في هذه المنزلة من العلم لا ينبغي أن يرحل عنه(18).
ومازال في بعض العواصم العربية والإسلامية حوانيت لبيع وشراء الكتب وبالذات في الأحياء القديمة منها، ورغم أنها لا تلعب الدور الرائع والمتميز الذي كانت تلعبه حوانيت الكتب في العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية، إلا أن بعض أصحابها مازالوا يتمتعون بقدر لا بأس به من العلم والمعرفة فيستطيعون الحوار المفيد مع كل من يذهب لشراء أحد الكتب أو يسأل عن كتاب يهمه..
الهوامش:
1 - أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، طبعة الساسي، 4 / 35.
2 - فليب حتى، تاريخ العرب، لندن، 1949 م، ص 414.
3 - اليعقوبي، كتاب البلدان، ليدن، هولندا، بدون تاريخ، ص 17.
4 - ابن زولاق، أخبار سيبويه المصري، مخطوطة محفوظة بمكتبة تيمور باشا بقسم المخطوطات في دار الكتب المصرية (تاريخ)، الصفحات 33 ـ 44 .
5 -المقريزي، الخطط، القاهرة، 1170 هـ، 1 / 361، 2 / 96، 102.
6 - ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مارجليوث، لندن، بدون تاريخ، 6 / 408.
7 - ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مارجليوث، لندن، بدون تاريخ، 5 / 179.
8 - ابن خلكان، وفيات الأعيان، القاهرة، 1275 هـ، 2 / 311 ـ 312، بتصرف من عندنا.
9 - أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1987 م، ص 67، بتصرف من عندنا.
10 - ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مارجليوث، لندن، بدون تاريخ، 6 / 56 بتصرف.
11 - ابن خلكان، وفيات الأعيان، القاهرة، 1275 هـ، 2 / 311، بتصرف.
12 - ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مارجليوث، لندن، 5 / 157 ـ 158.
13 - عبد الرحمن بن الجوزي، مناقب بغداد، بغداد، 1343 هـ، ص 29.
14 - المقريزي، الخطط، القاهرة، 1170 هـ، 2 / 102.
15 - أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1987 م، ص 69، بتصرف من عندنا.
16 - أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة الساسي، 3/ 129.
17 - السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، القاهرة، 1324هـ، 2 / 168.
18 - أبو الحاج، الألف باء للألباء، مخطوطة مصورة، بقسم المخطوطات بدار الكتب المصرية، عن الأصل المحفوظ بمكتبة با يزيد، باستنبول، تركيا، تحت رقم 5336، ص 147.
المصدر : موقع مجلة المعرفة